وترجل الفارس الداعية المربي
الشيخ صالح بن محمد الدهيشي (أبوثابت)
أبو ثابت ..
لا أدري أي صفاتك أعجب إلي أهو صمتك وهدوؤك .. أم زهدك وتواضعك ( وأنت الشاب الذي تربى في بيت غنى وعز و تهيأ لك كل أسباب الترف والنعيم ) .. أم أعجب من شجاعتك وإقدامك .. أم عبادتك وصلاحك .. أم تضحيتك واحتسابك ؟ بل ذلك كله صنع منك شخصيه مميزة محبوبة .. وجعلت منك رجلاً قد قضى نحبه أو كاد في رأي كثير ممن رآك حيث اتفقوا أنك قد نلت سمات الشهيد فإنما الشهادة اصطفاء ( ويتخذ منكم شهداء ) ولانزكيك على الله .
لا زلت أذكر يوم أتيتني غاضباً من انسحاب الأخوة المجاهدين في كسوفا أمام الصرب لما أراد الصرب الالتفاف عليهم وذكرت أن الجهاد يحتاج إلى ثبات وتضحية .. وقلت في نفسي لا يصدر هذا الكلام إلا من رجل شجاع يضع نفسه موضعهم وأنه لا يمكن أن ينسحب حينها .
وتقلبت أبا ثابت من الأفغان إلى ... إلى الشيشان تترقب منازل الشهداء ـ لا حرمك الله إياها ـ ويتساءل الناس عنك هل لازلت حياً بين الناس لأن الشهادة كانت تلوح بين عينيك .
وكان الشيخ أبو عمر يقول هذا الرجل مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم :" من خير معاش الناس رجل آخذ بعنان فرسه يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار إليها يبتغي القتل مظانه "
قبل الموعد بأسبوعين يرى الشيخ أبو عمر أبا ثابت يحفر قبراً بيده فيؤولها بالشهادة وهكذا رآه أحد إخوانه .
أما كيف تمت فبعد فتح أحد مراكز العدو تقدم المجاهدون إلى المركز الثاني وكان أبو ثابت في مجموعة الاقتحام فقال للأمير أبي جعفر دعنا نقتحم عليهم وأبو جعفر يصبِّره قال أبو جعفر فالتفت إليه وإذاهو رافع يديه يدعو فسقطت قذيفة هاون بينه وبين أخيه عبدالصمد الطاجيكي فقتلا رحمة الله عليهما .
فيا ترى بأي دعاء كان يدعو لعله كان يسأل الله الشهادة فاستجيب له كما استجيب لمن قبله فهذا عبد الله بن جحش رضي الله عنه يوم أحد يدعو : " اللهم لقني رجلاً شديداً حرده قوياً بأسه أقاتله فيك فيقتلني ويجدع أنفي ويقطع أذني ، فإذا لقيتك قلت فيم جدع أنفك وقطعت أذنك فأقول فيك يارب ، وتنجلي المعركة عن مقتل عبدالله بن جحش وقد جدع أنفه وقطعت أذنه" ..
وهذا جابر بن جان (منصور الدوسري رحمه الله) دعا عند الاقتحام : اللهم افتح علينا هذا المركز واجعلني أول الشهداء ففتحوا المركز وكان أول شهيد.
كأنك في جفن الردى وهو نائم
وقفت وما في الموت شك لواقف
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطــال كلمى هزيمة
إيه أبا ثابت هل صحيح أنك لن ترجع إلينا ثانية فهذه زوجك التي شاطرتك مكابدة الحياة والتقلب في مواطن الجهاد تترقب رجوعك لتكمل مشوار الجهاد فكيف تمضي وحدك ؟ وهذا ثابت يسير على الخطى ليلحق بك ما بالك لم تنتظره وهذه ابنتك و هذا ابنك الصغير الذي رحلت إلى أرض الجهاد يوم أن بلغ اليوم الثاني من العمر ولم تره إلا مرة واحدة .
أبا ثابت لم يفقدك أهلك فقط بل فقـدُك عزيز على كل من عرفك لقد فقدك المسلمون في بنجلادش وفي ألبانيا وفي كوسوفا وفي الشيشان .
أبو ثابت كان مثالاًَ لمن عرف الدنيا حقاً وهوانها على الله فكانت كذلك لديه ، لقد أدرك أنه لابد وأن يصنع شيئاً لأمته ولا بد أن يقدم شيئاً بين يديه فرأى أن أفضل الأعمال ذروة سنام الإسلام فارتقاه
يستعذبون مناياهم كأنهم .... لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا
وقد تميز أبو ثابت بالشجاعة وشهد له بها كل من عرفه ، لما أ سقطت طائرة للروس ونزل منها الطيار بالمظلة حيث سقط في الغابة امتشق أبو ثابت سلاحه ونزل يبحث عنه مسرعاً عله أن يكون أول من يظفر به .
موت فريص الموت منه ترعد
أسد دم الأسد الهزبر خضابه
وأعرف الناس بأبي ثابت أهله وأصحابه الأقربون فهم أقدر أن يعرفوا به وقد تلقينا بعض الرسائل التي تلقي بالضوء على جوانب من شخصيته .
و قياماً بالواجب نحوه ورغبة في استلهام العبر والعظات من هذا البطل الذي بذل روحه في سبيل الله متوجاً بذلك سيرته الحافلة بالتضحية والبذل منذ بلغ الخامسة عشر من عمره الذي لم يتجاوز ثلاثين عاماً ، فهذه نبذة موجزة في نشأته وصفاته:
أولاً : ميلاده : ولد عام 1391هـ وهو الابن الأول لوالديه ، تخرج في كلية الشريعة بالرياض عام 1413هـ .
تزوج بإحدى بنات عمه وله من الأولاد : ثابت (أربع سنوات ونصف) وسمية (ثلاث سنوات) ومحمد (أربعة أشهر) تقريباً .
ثانياً : نشأته وصفاته
تقول والدته حفظها الله : منذ صغره وهو قنوع في ملبسه ومأكله ، لا يكلف أحداً بشيء أو يطلب منه مساعدة حتى أمه وزوجته ، كان خدوماً لوالدته لا يرد لها طلباً ، وكان محبوباًً ، فلم يشتك منه أحد منذ عرفته ، لا يشتم أحداً أو يضرب أحداً منذ صغره ، وكان واصلاً لرحمه حريصاً على زيارة أقاربه
ومن صفاته :
- كان حريصاً على إزالة المنكرات من البيت .
- كان سخياً لا يدخر شيئاً من ماله .
- كان شجاعاً لا يهاب شيئاً منذ صغره .
- كان محبوباً من الجميع وكل من رآه أحبه وذكره بخير في كل مكان ، وبعد استشهاده هرعت الجموع الغفيرة إلى منزل والده مهنئة ومباركة ومعزية على رأسهم العلماء والدعاة وطلاب العلم ، وقد كان لحضورهم أثر كبير في تسلية الوالد وأهله .
- كان ورعاً ينأى بنفسه عن أي أمر فيه شبهة وله في ذلك قصص معروفة .
- كان صاحب عِزة شديدة يتقطع قلبه ألماً وحسرة لقضايا المسلمين وهمومهم وكذلك حين يسمع المنكرات
- منذ سنين وهو يحدثني عن الشهداء وعظيم منزلتهم - قالته أمه .
- بعد تخرجه عام 1413هـ عمل في التدريس في الجديدة بمدينة عرعر على الحدود الشمالية ، وقد ذهب إلى هناك برغبته ، وبقي فيها سنتين داعياً ومعلماً محبوباً من الجميع ، ثم انتقل إلى الرياض وعمل أقل من سنة ثم استقال برغبته ورضاه ، وعمل محتسباً في الأعمال الدعوية والإغاثية والجهادية .
ومن صفاته :
ـ الحرص التام على إخفاء أعماله وجهوده حتى من المقربين منه ، وهذه يشهد بها جميع أقاربه .
ـ البعد التام عن المجالس التي يكثر فيها اللغو .
ـ بعيدا عن الجدال في الأمور المعلومة المتقررة .
ـ له عناية تامة بالجهاد وفضائله ويتيقن أن الجهاد أفضل الأعمال ، ويقول ( وكان يكررها كثيرا) : الجهاد لا يعدله شيء .
ـ له عناية تامة بالعلم وقرأ على بعض المشايخ وكان يحضر دروس الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله تعالى وغيره من أهل العلم .
ـ كان صاحب اطلاع في كتب العلماء .
ـ قال عنه أحد طلاب العلم الكوسوفيين ( دكتور) : ما رأينا مثله ، كان لاينام ولا يأكل إلا يسيراً ، وكنا نعمل معه في كوسوفا فكنا نتعب ولا يتعب ، وإذا تعب غفا قليلاً ثم استيقظ وواصل نشاطه ، كانت له عناية خاصة بالمستضعفين والمساكين ، اتصل بي هاتفياً قبل استشهاده بعشرة أيام وأوصاني ببعض الوصايا الخاصة به ".
ـ قال عنه أحد المشايخ : أشهد لله بأنني ما رأيت مثله ، وأشهد إن شاء الله بأنه ممن قال الله فيهم ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) .
ـ وقال أيضاً : إنه كان يجاهد بعلم ويعرف من يستحق القتال .
ـ ومن صفاته ـ كما تقول والدته ـ : كان صاحب قيام ليل لا يتركه رغم أنه كان ثقيل النوم إلا أنه كان يستيقظ بالمنبه ثم بدون منبه .
ـ كان لا يحب السهر ، وينام مبكراً قدر الإمكان ، ولا ينام بعد الفجر إلا نادراً .
ـ لم يذكر عنه أنه نال من أحد أو اغتاب أحداً أو رفع صوته على أحد .
ثالثاً : من أعماله :
ـ سافر أول مرة إلى أفغانستان عام 1411هـ في شهر رمضان تقريباً وله عشرون عاماً تقريباً ، وبقي هناك ستة أشهر ، واعتذر عن فصل دراسي في الكلية .
ـ تقول والدته : لم يتصل بنا خلالها ولم يصلنا منه إلا رسالة واحدة .
ـ ثم سافر إلى ألبانيا وبقي فيها أربعة أشهر تقريباً .
ـ ثم سافر إلى بنجلاديش وبقي فيها عشرة أشهر .
ـ ثم رجع إلى ألبانيا مرة ثانية ومعه زوجته وأولاده .
ـ ثم رجع إلى بنجلاديش ومعه زوجته وأولاده وذلك في أعمال إغاثية و دعوية .
ـ سافر إلى الشيشان عدة مرات .
ـ والمرة الأخيرة سافر إلى الشيشان في آخر شهر رجب 1420هـ وقد خرج من بيته مغتسلا ولبس أحسن ملابسه وكأنه ذاهب إلى مناسبة وذلك بعد ولادة ابنه الصغير محمد بيومين فقط الذي لم يره إلا مرة واحدة فقط .
ـ مما عرف عنه تسهيل أموره دائماً فكثيراً ما أنجز أعمالاً كثيرة في وقت يسير وله في ذلك قصص معروفة .
ـ كان لطيفاً بأولاده ـ أصلحهم الله ــ ومن المضحك المبكي أن ابنه ثابت كثيراً ما يقول: لماذا لم يذهب إلى الشيشان إلا أبي ؟! ويقول إذا رجع أبي من الشيشان سيعطيني ريالاً وسأعطيه للمجاهدين في الشيشان.
أما موقف والديه وزوجته فقد كان موقفاً عجيباً :
ـ أبوه يقول : الحمد لله الذي شرفني بقتله ، ويقول أيضاً : أتمنى أن يستشهد جميع أبنائي ، ومن عرف الله هانت مصيبته .
ـ كان والده يقول : لم أقل له يوماً واحداً لا تذهب إلى الخارج أو لماذا تذهب ، ويقول أيضاً : لقد حصّل ابني ما يريده ويتمناه .
ـ أمه حمدت واسترجعت ، وتقول : كنت أتمنى أن يكون من أبنائي من يجاهد في سبيل الله ، وتقول : أوصي أمهات الشهداء بالصبر والاحتساب .
ـ وكذلك زوجته الصابرة المجاهدة التي لم يُنقل عنها كلمة واحدة في التضجر من كثرة سفر زوجها ومشاركته في قضايا المسلمين ، وتقبلت نبأ استشهاده بصبر واحتساب .
ـ لقد كان صالح رحمه الله مدرسة وأمةً لوحده ،حياته عجيبة ومقتله عجيب وكان مؤثراً فيمن حوله بصمته وسمته وهديه ومحبته للناس ، وكان استشهاده درساً عظيماً لأسرته وأقاربه الذين تقبلوا نبأه بصبر واحتساب بل وبفخر وغبطة وقد انهالت الاتصالات من أنحاء المملكة ومن خارجها مواسية ومعزية وذاكرة مآثر الفقيد وأعماله التي يتعجب منها القريبون منه الذين ما كانوا يظنون جلالة أعماله .
ـ مما هوّن المصاب وسهَّل الخطب وجفّف دموع ذوي صالح وأقاربه هذه الجموع الغفيرة والدعوات الصادقة التي تُشعر بالرفعة والمنزلة العالية التي كان يتبوؤها .
كلمة والد " أبي ثابت "
تلقيت خبر استشهاد ابني صالح كما يتلقاه أي أب مؤمن واثق بوعد الله للصابرين المحتسبين المدخرين الأجر عند الله ، الأب الراجي الطامع في أن يجعل الله ابنه من الذين قال الله فيهم
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
وفي هذه بشارة عظيمة نرجو الله أن يرفع درجة الإيمان عند كل مسلم حتى تصل إلى فهم وإدراك هذا الموعود السامي لتتسابق إلى ميادين الجهاد والبذل والعطاء والسخاء بالمال والنفس والأهل والأبناء في سبيل الوصول إلى هذا المقام العظيم ، وأي شيء أفضل من حياة دائمة الرزق الكريم فيها مضمون ، ألا تستحق المبادرة والإقدام ؟
بل والله إنها سلعة الله وسلعة الله غالية تحتاج إلى قوة إيمان وصدق مع الله .
ونرجو الله تعالى أن يحقق للمسلمين العزة والغلبة والتمكين في الأرض كما أرجو الله سبحانه وتعالى أن يخلف لي في صالح برفع درجاتي عند ربي ويرزقني شهادة في سبيل الله وأن يقر عيني بصلاح أبنائي وبناتي وأولادهم وأن يريني فيهم خيراً وأن يحعلنا جميعاً من الذين يقبل الله شفاعة الشهيد فيهم لدخول جنات النعيم إنه ولي ذلك والقادر عليه إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا لفراقك يا صالح لمحزونون وللدموع بعدك ذارفون ونرجو الله أن يجمعنا بك يا صالح في دار كرامته .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد حرر في 26/11/1420هـ
رحم الله أبا ثابت، وجمعنا به في الخالدين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
ونأمل من أصحاب أبي ثابت ورفقاء دربه في الدعوة والتعليم والجهاد موافاتنا بما لديهم عن شخصيتة وأخباره ليكون نموذجاً للأجيال .ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ